كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكانت فترة الإعداد ثلاثين ليلة، أضيفت إليها عشر، فبلغت عدتها أربعين ليلة، يروض موسى فيها نفسه على اللقاء الموعود؛ وينعزل فيها عن شواغل الأرض ليستغرق في هواتف السماء؛ ويعتكف فيها عن الخلق ليستغرق فيها في الخالق الجليل؛ وتصفو روحه وتشف وتستضيء؛ وتتقوى عزيمته على مواجهة الموقف المرتقب وحمل الرسالة الموعودة..
وألقى موسى إلى أخيه هارون- قبل مغادرته لقومه واعتزاله واعتكافه- بوصيته تلك:
{وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين}..
ذلك وموسى يعلم أن هارون نبي مرسل من ربه معه. ولكن المسلم للمسلم ناصح. والنصيحة حق وواجب للمسلم على المسلم.. ثم إن موسى يقدر ثقل التبعة، وهو يعرف طبيعة قومه بني إسرائيل!.. وقد تلقى هارون النصيحة. لم تثقل على نفسه! فالنصحية إنما تثقل على نفوس الأشرار لأنها تقيدهم بما يريدون أن ينطلقوا منه؛ وتثقل على نفوس المتكبرين الصغار، الذين يحسون في النصيحة تنقصًا لأقدارهم!.
إن الصغير هو الذي يبعد عنه يدك التي تمتد لتسانده؛ ليظهر أنه كبير!!!
فأما قصة الليالي الثلاثين وإتمامها بالعشر الليالي فقال عنها ابن كثير في التفسير: فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة؛ قال المفسرون: فصامها موسى عليه السلام وطواها، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة، فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين.
ثم يأتي السياق للمشهد التاسع. المشهد الفذ الذي اختص الله به نبيه موسى عليه السلام مشهد الخطاب المباشر بين الجليل سبحانه وعبد من عباده. المشهد الذي تتصل فيه الذرة المحدودة الفانية بالوجود الأزلي الأبدي بلا وساطة؛ ويطيق الكائن البشري أن يتلقى عن الخالق الأبدي، وهو بعد على هذه الأرض.. ولا ندري نحن كيف.. لا ندري كيف كان كلام الله سبحانه لعبده موسى. ولا ندري بأية حاسة أو جارحة أو أداة تلقى موسى كلمات الله. فتصوير هذا على وجه الحقيقة متعذر علينا نحن البشر المحكومين في تصوراتنا بنصيبنا المحدود من الطاقة المدركة؛ وبرصيدنا المحدود من التجارب الواقعة. ولكننا نملك بالسر اللطيف المستمد من روح الله الذي في كياننا أن نستروح وأن نستشرف هذا الأفق السامق الوضيء. ثم نقف عند هذا الاستشراف لا نحاول أن نفسده بسؤالنا عن الكيفية، نريد أَن نتصورها بإدراكنا القريب المحدود!
{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا وخر موسى صعقًا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلًا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلًا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون}.
إننا لفي حاجة إلى اسحضار ذلك الموقف الفريد في خيالنا وفي أعصابنا وفي كياننا كله.. في حاجة إلى استحضاره لنستشرف ونحاول الاقتراب من تصوره؛ ولنشعر بشيء من مشاعر موسى عليه السلام فيه..
{ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك}..
إنها الوهلة المذهلة وموسى يتلقى كلمات ربه؛ وروحه تتشوف وتستشرف وتشتاق إلى ما يشوق! فينسى من هو، وينسى ما هو، ويطلب ما لا يكون لبشر في هذه الأرض، وما لا يطيقه بشر في هذه الأرض.
يطلب الرؤية الكبرى وهو مدفوع في زحمة الشوق ودفعة الرجاء ولهفة الحب ورغبة الشهود.. حتى تنبهه الكلمة الحاسمة الجازمة: {قال لن تراني}..
ثم يترفق به الرب العظيم الجليل، فيعلمه لماذا لن يراه.. إنه لا يطيق..
{ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني}..
والجبل أمكن وأثبت. والجبل مع تمكنه وثباته أقل تأثرًا واستجابة من الكيان البشري.. ومع ذلك فماذا؟
{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا}..
فكيف كان هذا التجلي؟ نحن لا نملك أن نصفه، ولا نملك أن ندركه.. ولا نملك أن نستشرفه إلا بتلك اللطيفة التي تصلنا بالله، حين تشف أرواحنا وتصفو، وتتجه بكليتها إلى مصدرها. فأما الألفاظ المجردة فلا تملك أن تنقل شيئًا.. لذلك لا نحاول بالألفاظ أن نصور هذا التجلي.. ونحن أميل إلى اطراح كل الروايات التي وردت في تفسيره؛ وليس منها رواية عن المعصوم صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم لم يقل عن ذلك شيئًا.
{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا}..
وقد ساخت نتوءاته فبدا مسوًّى بالأرض مدكوكًا.. وأدركت موسى رهبة الموقف، وسرت في كيانه البشري الضعيف:
{وخر موسى صعقًا}.
مغشيًا عليه، غائبًا عن وعيه.
{فلما أفاق}..
وثاب إلى نفسه، وأدرك مدى طاقته، واستشعر أنه تجاوز المدى في سؤاله:
{قال سبحانك}..
تنزهت وتعاليت عن أن ترى بالأبصار وتدرك.
{تبت إليك}..
عن تجاوزي للمدى في سؤالك!
{وأنا أول المؤمنين}..
والرسل دائمًا هم أول المؤمنين بعظمة ربهم وجلاله، وبما ينزله عليهم من كلماته.. وربهم يأمرهم أن يعلنوا هذا، والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الإعلان في مواضع منه شتى.
وأدركت موسى رحمة الله مرة أخرى؛ فإذا هو يتلقى منه البشرى.. بشرى الاصطفاء، مع التوجيه له بالرسالة إلى قومه بعد الخلاص.. وكانت رسالته إلى فرعون وملئه من أجل هذا الخلاص:
{قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}..
ونفهم من قول الله سبحانه لموسى عليه السلام {اني اصطفيتك على الناس برسالاتي}.. أن المقصود بالناس الذين اصطفاه عليهم هم أهل زمانه- فالرسل كانوا قبل موسى وبعده- فهو الاصطفاء على جيل من الناس بحكم هذه القرينة. أما الكلام فهو الذي تفرد به موسى عليه السلام أما أمر الله تعالى لموسى بأخذ ما آتاه، والشكر على الاصطفاء والعطاء، فهو أمر التعليم والتوجيه لما ينبغي أن تقابل به نعمة الله. والرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- قدوة للناس؛ وللناس فيهم أسوة؛ وعلى الناس أن يأخذوا ما آتاهم الله بالقبول والشكر استزادة من النعمة؛ وإصلاحًا للقلب؛ وتحرزًا من البطر؛ واتصالًا بالله..
ثم يبين السياق ماذا كان مضمون الرسالة، وكيف أوتيها موسى: {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلًا لكل شيء}.
وتختلف الروايات والمفسرون في شأن هذه الألواح؛ ويصفها بعضهم أوصافًا مفصلة- نحسب أنها منقولة عن الإسرائيليات التي تسربت إلى التفسير- ولا نجد في هذا كله شيئًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكتفي بالوقوف عند النص القرآني الصادق لا نتعداه. وما تزيد تلك الأوصاف شيئًا أو تنقص من حقيقة هذه الألواح. أما ما هي وكيف كتبت فلا يعنينا هذا في شيء بما أنه لم يرد عنها من النصوص الصحيحة شيء. والمهم هو ما في هذه الألواح. إن فيها من كل شيء يختص بموضوع الرسالة وغايتها من بيان الله وشريعته والتوجيهات المطلوبة لإصلاح حال هذه الأمة وطبيعتها التي أفسدها الذل وطول الأمد سواء!
{فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها}..
والأمر الإلهي الجليل لموسى عليه السلام أن يأخذ الألواح بقوة وعزم، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بما فيها من التكاليف الشاقة بوصفه الأحسن لهم والأصلح لحالهم.. هذا الأمر على هذا النحو فضلًا على أنه يشي بضرورة هذا الأسلوب في أخذ هذه الطبيعة الإسرائيلية، التي أفسدها الذل وطول الأمد، بالعزم والجد، لتحمل تكاليف الرسالة والخلافة، فإنه- كذلك- يوحي بالمنهج الواجب في أخذ كل أمة لكل عقيدة تأتيها..
إن العقيدة أمر هائل عند الله سبحانه وأمر هائل في حساب هذا الكون، وقدر الله الذي يصرفه، وأمر هائل في تاريخ الإنسان وحياته في هذه الأرض وفي الدار الآخرة كذلك.. والمنهج الذي تشرعه العقيدة في وحدانية الله سبحانه وعبودية البشر لربوبيته وحده، منهج يغير أسلوب الحياة البشرية بجملتها، ويقيم هذه الحياة على أسلوب آخر غير الذي تجري عليه في الجاهلية، حيث تقوم ربوبية غير ربوبية الله سبحانه، ذات منهج للحياة كلها غير منهج الله الذي ينبثق من تلك العقيدة..
وأمر له هذه الخطورة عند الله، وفي حساب الكون، وفي طبيعة الحياة وفي تاريخ الإنسان.. يجب أن يؤخذ بقوة، وأن تكون له جديته في النفس، وصراحته وحسمه. ولا ينبغي أن يؤخذ في رخاوة، ولا في تميع، ولا في ترخص، ذلك أنه أمر هائل في ذاته، فضلًا على أن تكاليفه باهظة لا يصبر عليها من طبيعته الرخاوة والتميع والترخص، أو من يأخذ الأمر بمثل هذه المشاعر.
وليس معنى هذا- بطبيعة الحال- هو التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض! فهذا ليس من طبيعة دين الله.. ولكن معناه الجد والهمة والحسم والصراحة.. وهي صفات أخرى ومشاعر أخرى غير مشاعر التشدد والتعنت والتعقيد والتقبض!
ولقد كانت طبيعة بني إسرائيل- بصفة خاصة- بعدما أفسدها طول الذل والعبودية في مصر. تحتاج إلى هذا التوجيه. لذلك نلحظ أن كل الأوامر لبني إسرائيل كانت مصحوبة بمثل هذا التشديد وهذا التوكيد، تربية لهذه الطبيعة الرخوة الملتوية المنحرفة الخاوية، على الاستقامة والجد والوضوح والصراحة.
ومثل طبيعة بني إسرائيل كل طبيعة تعرضت لمثل ما تعرضوا له من طول العبودية والذل، والخضوع للإرهاب والتعبد للطواغيت، فبدت عليها أعراض الالتواء والاحتيال، والأخذ بالأسهل تجنبًا للمشقة.. كما هو الملحوظ في واقع كثير من الجماعات البشرية التي نطالعها في زماننا هذا، والتي تهرب من العقيدة لتهرب من تكاليفها، وتسير مع القطيع؛ لأن السير مع القطيع لا يكلفها شيئًا!
وفي مقابل أخذ هذا الأمر بقوة يعد الله موسى وقومه أن يمكن لهم في الأرض، ويورثهم دار الفاسقين عن دينه:
{سأريكم دار الفاسقين}..
والأقرب أنها إشارة إلى الأرض المقدسة التي كانت- في ذلك الزمان- في قبضة الوثنيين، وأنها بشارة لهم بدخولها.. وإن كان بنو إسرائيل لم يدخلوها في عهد موسى عليه السلام لأن تربيتهم لم تكن قد استكملت، وطبيعتهم تلك لم تكن قد قوّمت، فوقفوا أمام الأرض المقدسة يقولون لنبيهم: {يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون}.. ثم لما ألح عليهم الرجلان المؤمنان فيهم اللذان يخافان الله، في الدخول والاقتحام! أجابوا موسى بتوقح الجبان- كالدابة التي ترفس سائقها!-: قالوا: {إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون}.. مما يصور تلك الطبيعة الخائرة المفككة الملتوية التي كانت تعالجها العقيدة والشريعة التي جاء بها موسى عليه السلام، وأمر هذا الأمر الألهي الجليل أن يأخذها بقوة، وأن يأمر قومه بحمل تكاليفها الشاقة..